محمد حراز يكتب: منازل رشيد الأثرية تستغيث
منازل رشيد الأثرية تستغيث
عندما ترى في قلب عاصمة النور – باريس القديمة – شارعًا يحمل اسم «روزيت» فاعلم أن فرنسا – وبكل تأكيد – تملك من الأسباب ما يجعلها تفعل ذلك؛ فارفع رأسك وافتخر أنك من تلك المدينة.
“فرنسا” .. “انجلترا” قلب أوربا المعرفي وتاريخها العلمى والثقافى، تعرفان جيدا قدر هذه المدينة وفضلها على العالم؛ فيحرصون على تدريس تاريخها لأبنائهم، فهى المدينة التى فك واحدا من أحجارها ما بدا للعالم وكأنه طلاسمَ وتعاويذ، وفتح له بابا واسعا على كنوز المعرفة المصرية القديمة التى حيرت مظاهرها العقول لوقت طويل؛ فعبروا من خلاله وبشغفٍ لا يضاهيه شغف ليتعرفوا على حضارة مصر القديمة التى أنارت العالم القديم لألاف السنين، ففردوا لها فى جامعاتهم ما لم يُفرد لغيرها من العلوم، اللهم إلا الحضارة الإغريقية، التى اعتبروها حضارة الحياة حين كانوا يظنون خطأ أن الحضارة المصرية القديمة كانت حضارة الموت، وما كانوا ليظنوا غير ذلك لولا فك رموز حجر رشيد؛ ففهموا أنها كانت حضارة إنسانية أخلاقية فلسفية بامتياز، بينما نحن هنا، وللأسف، لا نرى ما حفره أبناؤها الأولون على جبين التاريخ منذ ألاف السنين، فلا نحفظ لها من كل هذا المجد سوى “عيد رشيد القومي” يوم انتصارها على الإنجليز في عام ١٨٠٧.. والتى أجلت الاحتلال الإنجليزى لمصر لمدة خمسة وسبعين عامًا.
رشيد التي علّمت العالم، وفتحت له آفاق المعرفة، لم يستطع أبناؤها السير على درب أجدادهم بل أنهم لم يستطيعوا حتى أن يحافظوا على ما تركوه لهم، فتهدمت منازلها الأثرية، واندثر بعضها، واختفى البعض الآخر من الوجود كأنه لم يكن يوما..
.. هنا كان منزل … وهنا كانت وكالة … ، وهناك سقطت أدوار كاملة من منزل …. ، وهنا تهدمت شرفات وسقطت أعمدة..
الحكاية بدأت في صباح اليوم العاشر من شهر مايو 2005 عندما استيقظت المدينة على نبأ انهيار منزل “درع” الأثري الملاصق لمنزل المناديلي من الجهة الشرقية والمكون من أربعة أدوار، فقد أصبح أثر بعد عين.
الكارثة لم تكن في انهيار منزل له تاريخ عظيم وقيمة أثرية نادرة، بل كانت في ردة فعل الأهالي، التي لم يحرك انهياره فيهم قيد أنملة من مشاعر؛ بل لم يحرك شعرة في رأس أحدهم في سابقة غريبة وعجيبة..
فالمهتمين بتصوير منزل المناديلي وأعمدته المنهارة، أو بتصوير القمامة المتكدسة أمام مدخله، لا يعرفون أن قطعة الأرض الفضاء الملاصقة له من الجهة الشرقية هي (أرض منزل درع) الذي سقط واختفى من الوجود في ليل العاشر من مايو عام ٢٠٠٥ !!
في صباح الثلاثاء الموافق 24 – 5 – 2005، انعقدت اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية والتي اعتمدت تقرير اللجنة الذي صدر بتاريخ 12/ 5 /٢٠٠٥ عقب انهيار المنزل، والذي أوصى بإعادة بناء المنزل وفقاً للتوثيق الأثري المرفق من الإدارة المركزية لهندسة الآثار والمتاحف ومركز نظم المعلومات الجغرافية بالمجلس الأعلى للآثار والذي تم توثيقه في عام ٢٠٠٤ بكلية الهندسة جامعة القاهرة.
وقد أصبح منزل المناديلي هو المنزل الأكثر شهرة بالنسبة لأهالي رشيد منذ انهيار منزل “درع” الذى كان ملاصقا له، فقد أدى سقوطه إلى حدوث تصدعات كبيرة وخطيرة جدا بالأدوار العلوية، ودرءًا للخطورة والحفاظ عليه من الانهيار الكامل؛ فقد وافق السيد الدكتور الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار على فك الأدوار العلوية من المنزل باستثناء الدور الأرضي، وذلك بعد أعمال التوثيق التي تمت بمعرفة مركز هندسة الآثار والبيئة – كلية الهندسة جامعة القاهرة.
وعلى وجه السرعة ونظراً لاهتمام الدولة بمدينة رشيد آنذاك؛ فقد تم طرح المنزلين للترميم ضمن مشروع ترميم منازل ومساجد رشيد المجموعة (ب)، وتم تسليمهما بالفعل إلى الشركة المنفذة في شهر أغسطس عام ٢٠٠٨.
وبدأت الأعمال الشركة عملها بإزالة أنقاض منزل درع، وفك “الأجزاء المهمة” بالدور الأرضي المتبقى من منزل المناديلي.
ونظراً للأحداث التي مرت بالبلاد في ٢٠١١، كانت الصدمة في 6/ 12 / ٢٠١٢ حين وصل كتاب السيد اللواء/ المشرف على قطاع المشروعات بموافقة الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بتأجيل تنفيذ الأعمال الخاصة بمنزلي “درع” و”المناديلي”، والاكتفاء بما تم تنفيذه بالمنازل الأخرى (منزل علوان _ منزل عصفور _ منزل ثابت _ منزل مكي) حيث تم تسليمها تسليماً نهائياً بتاريخ 27 / 8 / 2012.
وها نحن في منتصف عام ٢٠٢٢ بعد ما يقرب من العشر سنوات من تاريخ توقف العمل بمنازل رشيد الأثرية..
والآن وبعد أن أبدى السيد الرئيس/ عبد الفتاح السيسي رعايته لمدينة رشيد؛ فإننا نأمل – وفي القريب العاجل – أن نشهد بأعيننا ذلك اليوم الذى تبدأ فيه أعمال إعادة بناء وترميم المنزلين وإعادتهما إلى ما كانا عليه وفقا للنمط الأثري القديم، وطبقاً للتوثيق الشامل المُعد بمعرفة مركز هندسة الآثار والبيئة – كلية الهندسة جامعة القاهرة؛ لما كان يحتويان عليه من زخارف ليس لها مثيل في العالم، وأقبية متقاطعة ومروحية نادرة الوجود، وأسقف خشبية تحمل رسومات زيتية قلما تجد مثيلاتها في منازل مصر الأثرية على الإطلاق، ذلك بخلاف المشربيات الخشبية المركبة ذات الدلايات النادرة التي تعتبر النموذج الأوحد هنا في رشيد.
سيادة الرئيس .. أهالي رشيد يأملون فى رعاية كاملة وشاملة لآثار رشيد، فذاك تاريخنا وتاريخ أجدادنا وليس هناك أغلى من تاريخ الأجداد.