محمد حراز يكتب عزوز المفترى عليه
عزوز .. ذلك الاسم الذي اقترن بحمام رشيد الأوحد؛ والذي بناه الحاج عبد الرحمن بن الحاج حجازي، المعروف بـ ” ابن جامع ” والذى كان تاجرا كبيرا من تجار رشيد حين كانت تلك المدينة مركزا تجاريا ضخما يفد إليه التجار من كل حدبٍ وصوب، فقد بُني هذا الحمام في القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي، خلف مسجد زعلول من الجهة الشمالية، وأوقف ريعه للإنفاق على هذا المسجد، ولا أظن أن “ابن جامع” قد جال بخاطره يوما أن حمّامه لن يحمل اسمه طويلا، وأن صيته إنما سيذيع منتسبا لغيره.. فما قصة هذا الحمام ومن هو عزوز ؟
كانت مدينة رشيد فيما مضى مدينة تجارية كبيرة، وميناءً تجاريًا ضخمًا، يقصده التجّار والرّحالة من كافة البلدان، ليبيعوا بضاعتهم التي جلبوها معهم من بلاد الشام، وتركيا، وجنوب أوروبا، ثم يشترون ما يحلو لهم من بضائع مصرية يعودون بها إلى بلادهم؛ فكانوا يمكثون بالمدينة أياما حتى ينتهوا من البيع والشراء.. هنا فكر “ابن جامع” في بناء حمامٍ يقصده التجار والأهالي على حدٍ سواء، ويكون ريعه وقفاً للإنفاق على جامع زغلول، ليكون أحد الحمامات الثلاثة التى شهدها وجه بحرى؛ فى سمنود ، والإسكندرية، ورشيد..
وقد ظل الحمام يقدم خدماته ويعمل بكامل طاقته عن طريق جلب المياه من نهر النيل وتخزينها في البئر أسفل الحمام، والتي يتم رفعها إلى السطح بواسطة الساقية، لتنساب من أعلى عبر مواسير تمر بغرفة الوقود التى تعمل على تسخينها، قبل أن تصل إلى غرفة الاستحمام (بيت الحرارة) بالدور الارضي.
ويعد الحمام من الناحية الأثرية تحفة فنية نادرة، وهو الحمام الوحيد المتبقى برشيد من العصر العثمانى، والذي استخدم في بنائه الطوب الآجر.. ويقع مدخله الرئيسى فى منتصف الواجهة الشمالية، وهو معقود بعقد نصف دائرى.. أما الواجهة الغربية فبها باب يؤدى إلى منزل بالدور الأول العلوي كان مخصصًا لإقامة الحمامي، وباب آخر يؤدى إلى بيت الوقود، ويتميز حمام عزوز بوحداته المعمارية المتميزة، فمدخل الحمام يؤدي إلى دهليز مسقوف بأقبية متقاطعة، وفى نهايته باب يؤدى إلى المسلخ الذي تتوسط سقفه شخشيخة من الخشب والزجاج الملون، ويتوسط المسلخ فسقية مثمنة الشكل، ويحيط بالمسلخ أربعة أواوين، وفى الجدار الغربى باب يؤدى إلى البيت الدافئ الذى يتكون من إيوانين يغطى سقفهما نصف قبة ضحلة تقوم على مثلثات كروية.. يلى ذلك مجاز يؤدى إلى بيت الحرارة الذى تتوسطه فسقية رخامية مثمنة فى وسطها حوض رخامى ذو فصوص يحيط به إطار من الرخام الأبيض والأحمر والأسود. أما بيت الحرارة فيتكون من صحن مثمن تحتل أربعة أضلاع منه أربعة أواوين، ويتصدر كل منها حوض ومغطسان وأربعة خلاوى، ويغطى الصحن قبة ضحلة بها فتحات زجاجية، ويعلو الخلاوى والمغاطس قباب وأقبية ضحلة.. أما أرضيات بيت الحرارة والبيت الدافئ فمن الرخام الأبيض، وفى الشرق من الحمام تقع الساقية التى ترفع المياه لتوزيعها علي الحمام، أما البيت الذى يعلو المسلخ فيضم غرفتين تتقدمهما صالة ومجاز يؤدى إلى المرحاض، وقد كان الدور الأول “العلوي” من الحمام مخصصا لسكن صاحب الحمام، والذي كان يلقب بـ “الحمامي”.
في عام ١٩٥١ أصدر الملك فاروق قرارا يحمل رقم “١٠٣٥٧” نُشر بالوقائع الرسمية، العدد “115” بتاريخ ١٧ ديسمبر لسنه ١٩٥١م. بتسجيل الحمام، الذى كان ملكا للحمّامى “محمد مصطفى مصطفى بدر” الشهير بـ “عزوز” والذى آلت إليه ملكية الحمام ميراثا عن والده الذى كانت الملكية قد آلت إليه بالشراء، على أن يحصل عزوز على مبلغ قدره ٤٦٥٠٠ جنيه (ستة وأربعون ألفا وخمسمائة جنيه) نظير تسجيل الحمام الذى سيظل معروفا باسمه ما بقى على سطح الأرض .. وقد ظل عزوز يعمل بالحمام حتى بعد تسجيله، فقد كان عزوز قد اشترط أن يظل حارساً على الحمام وأن يقيم بحجرته بالدور الثاني لحين الحصول على محل الإقامة المناسب له ولأسرته، وقد وافقت الحكومة على ذلك..خ
وقد ظل الحمام مفتوحا للعامة، ويعمل بكامل قدرته حتى منتصف السبعينيات..
في عام ١٩٨٢ صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم ٥٤٧ باعتبار الحمام من أعمال المنفعة العامة لينضم إلى المجلس الأعلى للآثار ونُشر هذا القرار بالجريدة الرسمية.
في بداية الثمانينات وصل الحمام لمرحلة متقدمة من الانهيار الكامل، فتهدمت جدرانه، وسقطت إحدى قبابه وأصبح مكانا خربا لا يدخله أحد، لكن أهالي حي زغلول استطاعوا الحفاظ عليه من النهب ومن السرقة، إلى أن جاء قرار عالم الآثار دكتور احمد قدري رحمه الله بترميم الحمام ضمن مشروع ترميم آثار رشيد في ١٩٨٥ ليعود الحمام لرونقه وجماله وكامل زينته وأصبح متاحاً للزيارة. وبمرور الوقت بدأت المياه الجوفية في الظهور بأرضية الحمام، وارتفع منسوبها بشكل مخيف، فتمت الاستعانة بمركز بحوث المياه بالقناطر الخيرية، والذي ظل يعمل لمدة ست سنوات، كان الحمام خلالها مفتوحاً للزيارة، لكنه عجز عن إيجاد حلٍ لخفض منسوب المياه بالحمام حتى عام ٢٠٠٣ – ٢٠٠٤، فانسحب المركز، ربما لأمر ما حدث بينه وبين هيئة الآثار، أو لعدم توصله إلى حلول جذرية لحل مشكلة المياه بالحمام خاصة بالجزء الأوسط، والجزء الغربي منه، فازدادت الحالة العامة للحمام سوءا وأصبح التخلص من المياه الجوفية أمرا مستحيلا، وحتى لا يتم غلقه قامت المنطقة بعمل ممرات(ممشى) من الأخشاب لاستخدامها في الزيارة لحماية زوار الحمام من المياه الجوفية وظل الأمر كذلك حتى عام ٢٠١٤ وانتهى الأمر باضطرار المنطقة لإبلاغ شرطة السياحة بالحال التى بات الحمام عليها، ومن ثم تم غلقه. ونتيجة لارتفاع المياه الجوفية، وخلخلة التربة حدثت انهيارات داخل الحمام، وظهرت الشروخ الطولية والرأسية في الجوانب الداخلية والخارجية .. غير أن الأمر قد ازداد سوءا، وتكالبت الظروف المناخية والعوامل الطبيعية على هذا الأثر القيّم؛ لينهار بيت الحمامي بالدور الثاني خلال العاصفة التي ضربت مركز رشيد فى أكتوبر ٢٠١٥، فهل سنرى في القريب العاجل قرارا بترميم الحمام الوحيد المتبقى في محافظة البحيرة وإعادته مزاراً سياحياً من جديد.
كل الشكر والتقدير لرجال آثار رشيد على التعاون والتسهيلات، وتقديم كافة المعلومات ليخرج التحقيق في أبهى وأدق صورة.