محمد حراز يكتب السراب الحلقة الحلقة الرابعة عشرة والأخيرة
جاءت ابتسامة رئيس الجهاز السيد آسر منير معبرة عن ما آل إليه مصير من اختار الخيانة طريقا ومنهجا لحياته، فأمثال صلاح ممن نشأوا ناقمين على المجتمع، رافضين لحياتهم، لم يحاولوا تغيير ظروفهم المعيشية بالطرق المشروعة، بل بحثوا عن الثراء السريع، دون النظر إلى القيم والمبادئ، الراسخة داخل المجتمع، فاستسلموا أمام أول دعوة للخيانة، وباعوا أنفسهم للشيطان، ورفضوا كل المحاولات لإعادتهم لرشدهم، فمصير هؤلاء حتماً، إما إلى السجن المؤبد، وإما إلى منصة الإعدام، مع نبذهم داخل المجتمعات التي اختاروها وفضلوها على أوطانهم..
تل أبيب في يوم الثلاثاء الموافق١٣ مارس ١٩٧٢
استمرت التحقيقات مع الجاسوس صلاح عبد الفتاح رشوان “شولومو” قرابة خمسة أشهر، بعد رفض جميع أعضاء نقابة المحامين في اسرائيل الدفاع عنه، وقد باءت جميع المحاولات التي قام بها قضاة التحقيق معه بالفشل، لإقناعه بالإعتراف مقابل التخفيف عنه، إذا ما أقر بصحة البلاغات الثلاث المقدمة ضده..
فقد شهدت المحكمة المركزية في تل أبيب يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر آذار “مارس”، عام ١٩٧٢ أغرب محاكمة من نوعها لمتهم، باغتصاب ثلاث نساء، مع عدم وجود محامِ واحدِ للمرافعة عنه..
ولإنفاذ القانون، استعانت المحكمة بعضو الدفاع التابع لها، الذي استبدأ دفاعه قائلا: سيدي القاضي لو لم يكفل القانون للمتهم الحق في وجود ممثل للدفاع عنه .. مافعلت، ولو كنت اعلم أنني سأدافع يوما عن مثل المتهم الماثل أمامكم، مالتحقت بتلك المهنة الشريفة..
سيدي القاضي، إن رفض المتهم الإقرار بالتهم المنسوبة إليه، لهو دليل كافِ على برائته، لكن هناك شعور يتملكني أنه مذنب، شكرا سيدي القاضي…
هنا ضجت القاعة بالتصفيق،
فأمسك القاضي بمطرقته ودق بها فوق منصته، فساد الصمت جنبات القاعة، ثم قال موجها كلامه إلى صلاح القابع وراء القضبان: لقد جئت طريدا شريداً، هارباً من بلادك إلى هنا، وقد منحناك الجنسية الإسرائيلية، وسلمناك جوازا للسفر لتعيش به آمناً، وليس لترويع واغتصاب النساء، لكن أبت نفسك المتدنية إلاَّ أن تنهش أجساد النساء اليهوديات؛ وقد حان الآن موعد القصاص…..
الصمت يخيَّم على المكان وأصبح السكون هو الثمة الرئيسية التي غلبت على الحضور، ومرت الثواني على صلاح كأنها سنوات وهو يرتعد منتظر نطق القاضي الذي استطرد قائلا: “إنه في يوم الثالث عشر من آذار عام ١٩٧٢ الموافق يوم الثلاثاء حكمت المحكمة بالإجماع بمعاقبة المتهم شولومو هارون مزراحي بالسجن المشدد ستة عشر عاما”
لم يهتز صلاح عند سماع الحكم، بل قابلهُ بكل برود، محاولا إخفاء مايعتريه من عاصفة خوف من شبح السجن فظل يردد: أنا لم أفعل ذلك .. أنا لم أفعل ذلك .. أنا لم أفعل ذلك، فنظر إليه القاضي ثم قال: لقد طبقت عليك أقسى عقوبة لتلك الجرائم، ولو كان القانون يسمح باعدامك، ما ترددت بالحكم عليك بالإعدام رميا بالرصاص..
هنا وقف الحضور داخل القاعة التي ضحت بالتصفيق مرة ثانية، لكن كان هناك وسط الحضور ثلاث فتيات، أخذن يصفقن لفترة أطول، ودموعهن تنهمر دون سيطرة، كأنهن ينتظرن هذا الحُكم، وكانت أكثرهن سعادة، هي المطربة لاميتا لخيم، التي احتضنت كل من سيسليا أهارون، وجورجينا عوفر، وذلك للحكم التاريخي الذي يحدث للمرة الأولى في تاريخ القضاء الإسرائيلي
سجن عسقلان المركزي
في اليوم الأول لصلاح داخل السجن، استقبله السجناء بما يُعرف في السجون الإسرائيلية بالتشريفة، حيث تم الاعتداء عليه بوحشية، كما أجبروه بنزع ملابسه، ومسح أرضية الزنزانة بها..
عانى صلاح أشد المعاناة في الأربعة أيام الأولى فلم يتمكن من النوم ساعتين متواصلتين، وفي اليوم الخامس وصل لمرحلة إنهيار تام وكامل، فصرخ في السجناء قائلاً: أنا اسرائيلي .. أنا يهودي زيكم، لماذا هذه المعاملة، أنا وطني .. أنا خدمت اسرائيل أكتر منكم، فجاء حرس السجن مسرعين، ونبهوا على السجناء تخفيف الضغط عليه..
أُرغم صلاح على التأقلم مع السجناء، حتى أصبح أقدم سجين داخل سجن عسقلان..
داومت زارة على زيارته في الشهور الست الأولى، ثم ما لبثت أن رفعت دعوة للطلاق منه، وبعد حصولها على الطلاق انقطعت عن زيارته بشكل كامل طوال فترة السجن..
بعد مرور أربعة عشر عاما قضاها صلاح في السجن، علمت لاميتا لخيم أنه كتب إلتماسا يطلب فيه العفو بقية المدة، فقامت أيضاً بكتابة طلبا للمحكمة بعدم موافقتها على العفو، وهي متمسكة باستكماله لكامل العقوبة، فتم رفض الإلتماس وأكمل الستة عشر عاما كاملة..
خرج صلاح رشوان بعد قضاء العقوبة كاملة، فقامت القناة العاشرة الإسرائيلية بعمل لقاء معه حول قضيته…
كانت المفاجأة المدوية والتي صدمت المخابرات المصرية حين قال: لست نادماً عن تنازلي عن الجنسية المصرية، ولست نادما عن اعتناقي اليهودية، ولو عاد بي الزمن لفعلت ما فعلته مرة أخرى..
كان صلاح يعتقد أنه بعد لقاء التليفزيون الإسرائيلي أن المخابرات الإسرائيلية ستفتح له زراعيها وتعيده مرة أخرى للعمل معها، لكن الحقيقة التي لم يكن أحد يتوقعها لشولومو هارون مزراحي، الذي كان يوم ما صاحب شركة آريس للسياحة والسفر في روما، يعيش الآن مشردا وسط شوارع تل أبيب متخذا من الأرصفة وأبواب المحلات مأوى وسكنا له..
المخابرات المصرية
القاهرة في ١٩ مارس عام ١٩٨٨ الموافق يوم السبت
مكتب رئيس الجهاز
السيد عبد الرحمن مطر يفتح ملفا جديدا يحمل غلافه اسم “تفيدة” ثم ينظر إلى صورة أمامه على مكتبه يعلوها شريط أسود ثم قال: رحمة الله عليك ياسيد آسر….
إلى اللقاء مع تفيدة