ساحة الرأي

محمد حراز يكتب السراب الحلقة الأولى

 

عبد الفتاح رشوان رجل بسيط يبلغ من العمر ثلاث وستون سنة، يعيش في شقة فوق السطوح بحي بولاق أبو العلا، مع زوجته أصيلة، المريضة بأزمة شُعبية..

في ليلة من ليالي القاهرة، وفي ذكرى مولد النبي، يجلس عبد الفتاح وحوله أبنائه الأربعة، أصغرهم صلاح بالصف الثاني الإعدادي، وياسر الذي سعى والده ليكون من حفظة القرآن الكريم، فألحقه بالمعهد الأزهري بروض الفرج، ومديحة التي حالت ظروف الأسرة المادية، بينها وبين التعليم، فجلست في المنزل مع والدتها لمساعدتها في أعمال المنزل، أما الإبن الأكبر اسماعيل، ففضل العمل، حمالاً “شيالا” باليومية مع والده في إحدى وكالات روض الفرج، لمساعدة والده في الإنفاق على اخوته، وتخفيف أعباء المعيشة عنه..

جلس عبد الفتاح وحوله أولاده الثلاثة على طبلية من الخشب لتناول وجبتهم الأساسية العَشاء: ياللا يامديحة هاتلنا الأكل وتعالي .. قوم ياصلاح ساعد اختك، ومتخليش امك تشيل حاجه

صلاح: أساعدها في إيه يابا .. أشيل معاها المحمر والمشمر .. مكانتش فرخه بنشوفها من السنه للسنه!!

مديحة من داخل المطبخ: حاضر يابا، حالا والأكل هايكون جاهز..

اسماعيل ينظر إلى شقيقه صلاح: انت إيه ياااخى .. انت إيه .. ما بلاش كلامك اللي زي الدبش ده، احنا في نعمة عظيمة .. قول الحمدلله ..

صلاح منذ صغره وهو ناقم على معيشته .. دائم الشكوى، فكان ينظر ويتطلع إلى معيشة زملاءه، فقال: نعمه .. وهي دي نعمه، تعالى شوف النعمه اللي زمايلي عايشين فيها .. بياكلوا يوم لحمة .. ويوم سمك، ويوم فراخ، واحنا بنحتفل من السنه للسنه بحيالله حتة فرخة، دا غير المصروف اللي بياخده مدحت؛ ولا تعالى شوف رمزي اللي كل يوم بيلبس قميص شكل، على بنطلون شكل، وجزمة شكل، وانا يادوب مصروفي يوم مايبقى كبير، وابوك راضي عني بيديني ربع ريال مخروم .. وعلى يدك محلتيش غير حتة قميص، والبنطلون، بقضى بيهم طول السنه، والجزمة بخيطها عند عبده الجزمجي في الشهر مرتين..

اسماعيل: إيه كل ده .. ياااخى احمد ربنا .. انت مبتزهقش من الحدوتة بتاعة كل يوم دي، شوف اخوك ياسر، بياخد نص مصروفك، وعمره متكلم، ولا عمره طلب حاجه…..

صلاح: أُمْاَل كانوا بيخلفونا ليه؟! علشان يعيشونا في الفقر والغُلب وخلاص..

اسماعيل: اعوذ بالله .. انت مش بني آدم..

ياسر: معلش يا اسماعيل .. صلاح لسه صغير، ميدركش الظروف اللي حواليه، وبرضه بيبص لزمايلهُ .. معلش

ثم ينظر ياسر إلى والده فيرى الدموع وقد تحجرت في عينيه فقال: صلى على النبي يابا .. ربنا يخليك لنا وميحرمناش منك أبدا، انت واخويا اسماعيل..

ينظر عبد الفتاح إلى ولده صلاح وهو مشفق عليه ولكنها الظروف فقال: يابني أنا راجل على قد حالي .. يمكن أكون مش قادر أوفرلك انت واخواتك اللي بتتمنوه، لكن قوللي أعمل إيه .. أسرق .. ولا أنهب، ولا أخون الناس اللي أويانا ومشغلينا عندهم .. أنا حيلي بيتهد من صباحية ربنا لحد آدان المغرب أنا واخوك اسماعيل، علشان يومية بنص جنيه .. يابني الإيد قصيرة والعين بصيرة .. ادعى ربنا يوسع علينا واحنا نعملكم كل اللي نفسكم فيه .. ياصلاح يابني .. احنا في ليلة مقترجة، والنهارده موسم مولد النبي، ثم ينظر إلى الطعام فوق الطبلية ويقول: ربنا يديمها علينا نعمة..

ثم ينادي عبد الفتاح على زوجته: تعالي يا أصيلة اقعدي هنا جنب ابنك صلاح.

ثم يطلب من ابنته مديحه أن تضع طبق الشوربة أمام أمها قائلا: ياللا يا أصيلة اشربي الشوربة وعليها النص لمونه دي، علشان تدفي صدرك……

مرت الأيام وكرت السنوات، وأتم صلاح امتحان الشهادة الإعدادية، ويوم ظهور نتيجته، توفيت والدته متأثرة بمرضها بعد أن عجزت الأسرة عن علاجها..

طلب اسماعيل من شقيقه صلاح أن يأتي للعمل معه في الوكالة، لكي يرتاح والدهم، فلم يعد يتحمل مشقة العمل، خاصة بعد أن تقدم به العمر، مع صعوبة الإستمرار في تلك المهنة، لكن صلاح رفض الذهاب للعمل حمالاً في الوكالة قائلا: أنا عايز أكمل تعليمي وادخل الجامعة، أنا ياعم اسماعيل مش أقل من زملاتي..

اسماعيل: ياصلاح الظروف…….

فقاطعه صلاح قائلا: متحملش هم .. أنا هاشتغل واصرف على نفسي..

اسماعيل: هاتشتغل….؟ هاتشتغل إيه ان شاء الله؟!

صلاح: هاشتغل في التجارة .. أنا كبرت معدتش صغيَّر..

اسماعيل: التجارة؟!

صلاح: أيوة التجارة، هابيع واشتري، وهاوفر مصاريفي..

بالفعل بدأ صلاح يعمل في بيع التحف والهدايا التذكارية، واتخذ من ميدان الحسين مكانا لتجارته الصغيرة، بعد أن تعرف على أحد التجار بحي الحسين، يأخذ منه البضاعة ويبيعها، ثم يسدد ثمن البضاعة، ويحصل هو على صافي الربح..

بدأ صلاح يتعرف على الناس، ودارت تجارته، وأصبح له زبائن تسأل عنه وتأتي إليه لتشتري منه، فقد كان له أسلوبه المميز في عرض بضاعته بِعدة لغات، فربح منها ما يكفيه للإنفاق على نفسه..

وفي يوم الجمعة الموافق ٢ فبراير ١٩٦٧ توفي والده وهو في الصف الثاني الثانوي، واستطاع إنهاء المرحلة الثانوية، ليلتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، قسم لغات شرقية..

بعد دخوله الجامعة واندماجه وسط المجتمع الجديد، كان يزداد حقدا وحنقا وكرها، لهذا المجتمع خاصة الأغنياء لأنه يُشعِرُه بالفارق الطبقي..

وفي يوم الثلاثاء الموافق ٢ نوفمبر ١٩٧١، ووسط ميدان الحسين، وقف ينادي على بضاعته باللغات التي يدرسها “الإنجليزية، والتركية، والفارسية”، فَيُلفت نظر الأفواج التي تتجول بالميدان، وبينما كان هناك فوجا تركياُ يتسوق بالميدان، لفتت طريقة صلاح في تسويق بضاعته نظر أحد أفراد الفوج الذي كان يمرَّ بجواره، فاقترب منه قائلاً: انجليزي وفارسي وتركي؟

صلاح: أيوة..

فرد عليه السائح متسائلاً: وهل تجيد العبرية؟!

إلى اللقاء في الحلقة الثانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى