محمد حراز يكتب .. الأشاير والبشاير الفصل التاسع
كادت الصدمة أن تطيح بصواب اليوزباشي رشدي الطوبجي حين كشفت الصدفة حرس النيابة وهو يطلب من الشيخ القللي الدخول قائلاً: اتفضل يافندم……
فقال في تعجب واستفهام: افندم…؟! يطلع مين الشيخ القللي .. معقول .. الدرويش اللي عايش بينا الفترة دي كلها منعرفش هو مين وحكايته إيه، معقول يطلع في الآخر …..؟!
ظل اليوزباشي رشدي يحدث نفسه للحظات، فأخذه الفضول لمعرفة من يكون ذلك الرجل، فاتخذ القرار بالاستئذان للدخول للسيد وكيل النائب العام..
أدرك السيد وكيل النائب العام ما يريده اليوزباشي رشدي فسمح له بالدخول..
عند دخول اليوزباشي رشدي لاحظ أن الشيخ القللي جالسا ويضع قدمِ على الأخرى، وأمامه فنجان من القهوة، وقبل أن تأخذ الحيرة مسارها على وجه اليوزباشي رشدي، قال
السيد وكيل النائب العام: اتفضل ياحضرة اليوزباشي .. أنا عارف انت بتفكر في إيه، أقدم لك البكباشي مصطفى ياسين الصيرفي من مكتب المكافحة بالمديرية..
اليوزباشي رشدي وهو لا يصدق مايسمعه: بك .. بكباشي ……..؟!
البكباشي مصطفى الصيرفي: مكانش مسموح لحد يعرف أنا مين، حتى انت ياحضرة اليوزباشي، كنا محتاجين سرية تامة، خاصة لما مصادرنا السرية أكدت أن في معلومات بيتم تسريبها من داخل المركز، كان مطلوب نتحصل على أكبر قدر من المعلومات عن حمدون ومين اللي ورا حمدون، بسبب عمليات التهريب اللي غرقت البلد بالمخدرات، وبسبب حوادث القتل اللي تزامن حدوثها مع عمليات التهريب، وكلها تم تأييدها ضد مجهول..
هنا ابتسم اليوزباشي رشدي ثم قال: تمام يافندم..
البكباشي مصطفى الصيرفي: خلينا بقى في المهم.. حليم اتفق على أكبر عملية جلب مخدرات في تاريخ مصر، المركب ها تتحرك من لبنان يوم ٢٣ نوفمبر منتظر توصل سواحلنا يوم ٧ ديسمبر، لأنها هاتدخل قبرص الأول، إذن النيابة هايكون جاهز، زي ما وعد معتز بيه..
اليوزباشي رشدي: تمام يافندم..
مصطفى الصيرفي: أنا مين؟؟
اليوزباشي رشدي مندهشا لم يرد
البكباشي الصيرفي: القللي … الشيخ أحمد القللي..
اليوزباشي: تمام يافندم
قهوة معاطي
الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام جاء مختلفا عن كل الأعوام التي سبقته، فاللمرة الأولي في تاريخ المدينة، اتفق المعلم عبده القهوجي مع المنشد الديني محمد عبد الباري وفرقته لإحياء ليالي مولد النبي، على أن يقضى الناس سهرتهم مع القصص الدينية والحكايات الشعبية، فكان الباشكاتب مظهر أفندي يتواجد كل ليلة بالقهوة ليكون بالقرب من منزل نرجس، والتي كانت تحرص أيضا على الوقوف بالشباك، لتستمتع بقصص الشيخ محمد..
في صباح الأحد الثالث من ربيع الأول لسنة ١٣٧١ هجرية، الثاني من ديسمبر لسنه ١٩٥١ وجد أهل الحارة الباشكاتب مظهر مخنوقاً، وماهي إلاَّ لحظات حتي حضرت النيابة العامة لمعاينة الجثة، وقد بدت آثار الخنق واضحة عليه، فأمرت بنقل الجثمان إلى الطب الشرعي لمعرفة سبب الوفاة..
كثرت الأقاويل والحكايات حول مقتل مظهر أفندي، وانتشرت الشائعات هنا وهناك، ليحسم نعناع صبي المعلم عبده القهوجي الجدل حين سمعه أهل الحارة وهم ملتفون حوله في إنصات شديد: وانا بقفل القهوة بعد الشيخ محمد ماخَلص والفرقة لمت عدتها، الشارع مبقاش فيه صريخ ابن يومين، الدنيا بقت كَحل، بعد زيت الفوانيس ما نشف، سمعت صوت واحدة جاي من عند الحنفية، بتنادي عليه، مظهر .. مظهر .. مظهر أفندي، صوتها لسه بيرن في وداني ياجدعان، أول ماقرب منها قامت شداه نحيتها..
المعلم عبده: انت بتقول إيه ياولاَ .. بطْل هبل وعبط، بلاش كلام فارغ ؟!
نعناع: يامعلمي أنا شفتها بعنيا دول اللي هياكُلهم الدود .. قِفلت القهوة وطلعت أبص أشوف مين اللي بتنادي على مظهر أفندي، لقيت واحدة شعرها منكوش، وطالع من رقبتها شوكتين طول كده (وأشار على ذراعه) ويطلعوا عرض ورقة التين الشوكي شُفتها وهي بتخنقهُ..
عزوز الفطاطري: أيوة يامعلم عبده، أنا كمان شفتها قبل كده أكتر من مرة، وشُفت الشوكتين دول.. دي المزيَّرة…….
عدد كبير من أهل الحارة من بين مندهش ومرتعد مرددين (المزيَّرة)…؟!
المعلم سردينة: معقول الكلام ده يا ولاد؟!
عزوز الفطاطري: أيوة يامعلم سردينة بتطلع كل ليلة عند الحنفية..
وصل خبر مقتل مظهر أفندي إلى حمدون وهو جالس على باب الحلقة فقال وهو يضرب كفاً بكف: لا حول ولا قوة إلا بالله، إيه اللي بيحصل في البلد دى ياربي، الله يرحمك يامظهر افندي
المعلم عباس سردينة: انت مصدق موضوع المزيَّرة ده ياريس حمدون؟!
حمدون: ومصدقش ليه يابو زينب، وهي دي أول مرة المزيَّرة تطلع في البلد، وبعدين مظهر أفندي كان راجل شايف نفسه، وهي مبتختارش أي حد؟!
عباس سردينة: أيوة زي ما بيقولوا انها مبتختارش أي حد، لكن مبتقتلهمش، بتاخدهم يعيشوا معاها تحت الأرض..
حمدون: الله اعلم يابو زينب مش يمكن رفض ينزل معاها علشان كده خنقته؟!
هنا يظهر الشيخ القللي وينظر إلى حمدون ويقول: اللي غايب ماهش راجع واللي قاعد ماهش عاجب مدااد .. حيَّ
حمدون: تعالى ياشيخ أحمد
عباس سردينة: إيه الرضا ده ياريس حمدون، الشيخ أحمد مرة واحدة، ولا بقى بيكسر قلل، ولا انت بقيت بتشتم..
حمدون: الشيخ أحمد بقى الخليفة وميصحش يابو زينب
القللي: مدااد .. حيَّ
حمدون: احنا فى أيام مباركة ياشيخ أحمد، حضر نفسك، عايزين مسيرة متعملتش قبل كده
القللي: مدااد .. حيَّ
حمدون: اقعد ياشيخ أحمد..
ثم نادى حمدون على صبيهُ بساريه: واد يابساريه
بساريه: نعمين يامعلمي؟
حمدون: بسرعة هات رغيف وفلفلتين سخنين من عند لاخرس للشيخ أحمد يفطر
بساريه: حمامه يامعلمي
جلس الشيخ أحمد القللي يلف رغيف العيش وبداخله الفلافل، وهو يمسح فَمِهِ بطرف جلبابه الممزق، وأثناء ذلك جاءت سعدية زوجة صديق واضعة الياشمك الذي يخفي نصف وجهها كعادة نساء البلدة: العواف ياريس حمدون..
حمدون: يا أهلا ياست ام مَنَّص
سعدية: أُمال ياريس من يوم صديق ماتحبس وانت بتبعت يوم، وتقطع عشرة، لحد ما بقيت مش لاقية أصرف على القطط اللي فاتهملي صديق ودخل السجن..
حمدون: يام مَنص، لا الوقت وقته، ولا المكان مكانه
سعدية: القطط اللي في البيت ميعرفوش الكلام ده ياريس .. عايزين ياكلوا ويلبسوا، ويتعالجوا..
هنا يقف حمدون يتنحى جانبا بعيدا عن القللي وعن عباس سردينة: شوفي ياست انتى .. طالما كده اسمعيني كويس جوزك وَصلهُ حقهُ تالت ومتلت، ومع ذلك إذا كنت ببعتلك فده من باب العيش والملح اللي كان بيني وبين صديق، ومع ذلك؛ .. يضع يده في جيبه ويخرج نصف جنيه، خُدي .. هاتي للعيال طلباتهم
سعدية وهي تمسك بالنصف جنيه وتنظر إليه: إيه ده ياريس .. أوكلهم ولا البسهم ولا اجيبلهم دوا……..
هنا يقف الشيخ القللي ويقول: خلي بالِكْ يام منص اللي غايب ماهش راجع واللي قاعد ماهش عاجب .. ثم رفع القلة لأعلى وألقى بها فكسرها تحت أقدام سعدية، وانصرف وهو يقول مداااد، حيٌَ .. مداااد، حيٌَ…