ساحة الرأيفن ومنوعات

محمد حراز يكتب آمال.. الحلقة الثانية

 

جاء قرار التأميم الذي صدر في عام ١٩٦١ ليأخذ أموال صدقي باشا، بل وأخذ معه حياة صدقي علواني نفسه، الذي لم يتحمل الصدمة بعد ضياع أمواله وممتلكاته.

لم يترك قرار التأميم للأسرة سوى الحزن على ماضِ وذكريات، وجنيهات قليلة مع بداية كل شهر، لا تكفي مصروف يوم واحد، مما كانت تنفقه الأسرة، التي انتقلت من قصرها بالزمالك إلى شقة صغيرة، استطاع الدكتور سليمان توفيق شقيق السيدة ثريا، تدبيرها في مصر الجديدة لإقامتهم.

لم تمر سوى أسابيع قليلة على وفاة صدقي علواني، حتى لحقت به ثريا هانم توفيق، حزنا وحسرة عليه، وعلى ما آلت إليه ظروف أسرتها.

أصبحت آمال وشقيقها في مواجهة عالم جديد، عالم قاسِ وصعب ومؤلم.

انتقلت الدادة سيدة، وإدريس السفرجي، وعبده الطباخ، ليكونوا بجوار آمال وشقيقها في تلك المحنة..

في يوم الأحد الموافق ٣١ ديسمبر عام ١٩٦١ تدخل الدادة سيدة، وعم إدريس، وعم عبده، حيث تجلس آمال وشقيقها حسام، يقترب عم إدريس من آمال وهو يمسك بجنيهات قليلة ويقول: اتفضلي يابنتي .. كنت محوش المبلغ ده علشان تكاليف خَرجتي، مش محتاجهُُ، وانا راجع النوبه عند بنتي .. ولو حل الأجل، هما هيتكفلوا بكل حاجه.

آمال: لا ياعم إدريس .. خلى فلوسك معاك .. مش محتاجه غير انكم تبقوا معابا .. أنا محتجالكم جنبي أكتر من أي وقت تاني.

لكن عم إدريس فضل الابتعاد نظرا للظروف الجديدة التي تمر بها الأسرة رأفة بهم، فقال: هابقى ازوركم يابنتي من وقت للتاني.

أما عم عبده الطباخ فقال: اتفضلي ياست هانم كل الموجود معايا أربعين جنيه، ثريا هانم الله يرحمها كانت بتساعدني بمبلغ كل شهر بخلاف مرتبي، وكانت دايما تقولي وسع على أولادك ياعبده .. كنت ببعتهُلهُم، وبشيل منهم قرش للزمن.

آمال: لا ياعم عبده، معانا ومستورين؛ خلي فلوسك معاك ياعم عبده..

عم عبده: خلاص يابنتي مبقاش في العمر قد اللي راح .. انا كمان هاسافر البلد، وخلوا بالكم من بعض وابقوا افتكروني..اتفضلي يابنتي.

هنا ارتمى حسام في أحضان عم عبده، وهو يبكي: متسبناش ياعم عبده .. خليك معانا، أنا اتولدت وكبرت وانت معانا.

لم يتمالك عم عبده نفسه، فقد تملكت منه مشاعره وغلبته دموعه، فأمسك بيديه وقبلهما، وانكب على رأسه يقبلها؛ ثم قال: على عيني يا حسام يابني ان شاء الله من وقت للتاني هابقى اَمر عليكم.

أما الدادة سيدة فلم تتمكن من الكلام، فكانت تتقدم خطوة، وتتراجع خطوة، ثم لملمت قوتها ونظرت لآمال وقالت: أنا بقالي ٣٥ سنة مع صدقي باشا، ومع ثريا هانم الله يرحمهم، اتولدتم على ايديا، عِشتم طفولتكم قدام عنيا، كِبرتم وانا شيفاكم .. كنت بأكلكم بنفسي؛ كنت بلاعبكم في الجنينة، وانا خايفه عليكم من النسمة….

فاكرة ياست هانم .. فاكرة لما كنت بعمل نفسي حصان، وتمسكي حسام خايفه لا يقع وهو على ضهري.. فاكرة؟!

آمال ودموعها تتساقط: فاكره ياداده ….فاكره..

سيدة: اعملي معروف ياست هانم خليني معاكم، أنا مش عايزة راتب .. مش عايز حاجة .. خليني معاكم بلقمتي .. هي لقمتي كتير عليكم؟! أنا مش عايزة أمشي .. انتم عيلتي، وأسرتي وأولادي، أنا ماليش في الدنيا حد غيركم .. انتم ليه مستكترين عليا أكون جنبكم، ليه عايزين تحرموني أموت وانا بينكم؟!

هنا تنهار آمال تماما، وألقت بنفسها في حضنها، لتضمها سيدة إلى صدرها…، ولأول مرة يعرف الضعف طريقا إلى قلبها، فبكت، وظلت تبكي وتبكي على ماوصل بهم من حال؛ لتشتعل ثورة بداخلها، ثورة من الغضب والحقد والكراهية ضد الدولة، ضد الحكام الجدد التي رأتهم سببا فى ضياع كل شيء، من فقدان للأب والأم، وضياعاً للثروة.

لملمت آمال قوتها ونظرت إليهم، حسام وإدريس وعبده والدادة سيدة ورأت الجميع يبكي، فقالت: أنا فكرت خلاص هاعمل إيه…..

إلى اللقاء في الحلقة الثالثة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى