شظايا الحروب.. صراع مع المشاهد العالقة
كتبت: هدير عبد الوهاب
بعد مرور أكثر من عام على الابادة الجماعية التي مازالت تحدث حتى الآن في غزة, أشعر أنني محاصرة بين أفكاري، يطاردني عقلي بلا هوادة, وأتساءل باستمرار: كيف أهرب من تلك المشاهد التي اجتاحت ذاكرتي دون استئذان؟ مشاهد لم أكن أتخيل يومًا أنني سأراها، ولا حتى في أكثر كوابيسي ظلمة. رغم معرفتي أن العالم قاسٍ، ومليء بالجنون، إلا أنني لم أتصور أن هذا الكم من القسوة يمكن أن يكون موجوداً. لم أصدق أن هناك أماكن، حيث يمكن للإنسان أن يُسحق دون أن ترف للعالم عين!
في البداية، حاولت إقناع نفسي أن هذه المشاهد لن تبقى معي طويلاً. أنها ستتلاشى بمرور الأيام، وأن الألم سيقل حدته مع الوقت. لكن الوقت لم يكن الدواء الذي توقعته. المشاهد ظلت عالقة، تزداد وضوحًا كل يوم. أغمض عيني فأراها، أفتحها فأجدها ما زالت هناك، أصبحت تلاحقني أينما ذهبت. حتى في لحظات الفرح العابرة، لا أستطيع الهروب منها. وكأنها أصبحت جزء مني، ترافقني في كل لحظة، تذكرني أنني لم أعد نفس الشخص الذي كنته.
الحروب لم تعد قصصًا نسمع عنها من بعيد، بل أصبحت واقعًا نعيشه ونشاهده يوميًا. أرى كيف يتغير الناس، كيف يختفون تحت أنقاض المنازل المدمرة. وأشعر بالخوف من أن يتحول كل شيء إلى مجرد ركام، الخوف من أن نفقد كل ما كنا نؤمن به. أحيانًا أتساءل: ماذا سيبقى منا بعد كل هذا الدمار؟ هل سنظل قادرين على التعاطف؟ أم أن هذا الألم سيسرق منا كل شيء، حتى قدرتنا على الإحساس؟
في الماضي، كان مشهد واحد من تلك المشاهد كافٍ ليؤرق الإنسان ليالي طويلة. الآن، أصبحت مجرد جزء من نشرة الأخبار اليومية. نرى الحرب في كل مكان، نسمع عن القتلى والمشردين، لكن هل نشعر حقًا بما يحدث؟ أم أن الألم أصبح أمرًا عاديًا، نستقبله ببرود وكأنه ليس جزءًا من عالمنا؟ أصبحنا نرى عشرات الصور والفيدوهات دون أن نكترث. وكأننا فقدنا القدرة على التفاعل، أو ربما قررنا بوعي أو بغير وعي أن نغلق قلوبنا أمام هذا الألم الذي لا ينتهي.
هذا الانفصال العاطفي لم يأتِ من فراغ. إنها آلية دفاعية، ابتكرناها دون أن ندرك، لحماية أنفسنا.
إقرأ أيضاً: المجلس الأعلى للإعلام يضع ضوابط جديدة للبرامج الدينية اعتبارًا من يناير المقبل
حينما يصبح الانسان مجرد رقم، ننسى أن وراء كل رقم هناك قصة، شخص كان لديه أحلام وأصدقاء وعائلة. لكننا نختار ألا نرى. نختار أن نبقى على السطح، لأن التعمق في المشكلة يتطلب منا مواجهة حقيقية وصعبة. تلقينا الصدمة تلو الأخرى، حتى توقفنا عن الشعور تمامًا.
وفي هذا التوقف عن الشعور، نفقد القدرة على فهم حجم الكارثة، لأننا نراها فقط من خلال شاشة باردة. ماذا فعلوا فينا؟ كيف استطاعوا أن يقتلوا مشاعرنا؟ لقد جعلونا نعتاد شيئًا لم يكن يجب أن نعتاد عليه أبدًا: جعلونا نعتاد الظلم والقهر.
حينما أصبحت المآسي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، أدركنا أن شيئًا فينا قد تحطم. تلك المشاعر التي كانت تجعلنا نثور، نبكي، نشعر بالآخرين، تلاشت ببطء. لم يعد ما كان يصدمنا في الماضي يحمل نفس الوقع علينا. اعتدنا مشاهد الحرب، اعتدنا القتل، اعتدنا الظلم. جعلونا نعتاد على أن نكون بلا رد فعل!
الاعتياد هذا ليس سوى موت بطيء لشيء داخلنا. إنه استسلام ناعم، وقهر غير معلن. كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ ما فعلوه فينا ليس فقط حرماننا من رد الفعل، بل تعلمنا كيف نعيش بلا شعور. كيف نتحمل القسوة دون أن ننهار، وكيف نمضي في حياتنا وكأن كل شيء طبيعي.
كلما وقعت عيني على تلك المشاهد، أتساءل: ماذا لو كنت أنا مكانهم؟ ماذا لو كان مصيري أن أكون ضحية مثلهم؟ كيف سيتعامل الناس مع خبر موتي؟ هل سأكون مجرد خبر يمر سريعًا بين العناوين؟ مجرد رقم آخر في قائمة طويلة من المآسي التي يتجاهلها الجميع؟ أم ربما لا أستحق حتى أن أكون رقمًا؟ مجرد جثة أخرى في مكان مجهول، لا يهتم أحد بذكرها، ولا يبكي عليها أحد.
في عالمنا الحالي، يبدو أن المشاعر أصبحت بلا قيمة، بلا معنى. إذا كان الإنسان نفسه قد فقد قيمته، فما أهمية مشاعره؟ بالنسبة لأصحاب المصالح، نحن مجرد عقبات في طريقهم. لا يهتمون بما نشعر به، ولا بما نعاني. كل ما يرونه هو أهدافهم، ونحن مجرد حواجز يجب إزالتها، بأي وسيلة كانت.
بعد كل ما رأيناه، هل سنتغير؟ هل سنتعلم شيئًا من كل هذا؟ أم أننا سنستمر في السير في نفس الطريق، نكرر نفس الأخطاء، ونعيش في دائرة مغلقة، حتى نفقد أنفسنا تمامًا؟
أشعر بأنني تغيرت، حتى لو لم أستطع تحديد كيف أو متى حدث ذلك. لكن إذا كنا لم نتغير بعد، إذا كان هذا كله لم يغيرنا، فهل سيكون هناك شيء قادر على تغيّرنا؟
ربما ما أخشاه هو أن نبقى كما نحن، أن نظل نفس الأشخاص العالقين في هذه الدوامة. لأن البقاء كما نحن بعد كل ما مررنا به يعني شيئًا أعمق من الفشل؛ يعني أننا فقدنا القدرة على التفاعل مع العالم، على الشعور بما يدور حولنا. هذه هي النقطة التي أشعر فيها أنني فقدت القدرة على الفهم. ما الذي يجب أن يحدث لنستيقظ؟ كيف نخرج من هذا الصمت الثقيل الذي يبتلعنا؟
أكتب هذه الكلمات وأنا أعلم أنني لست الوحيدة التي تمر بهذا. هناك آخرون يعانون في صمت مثلي تمامًا، وربما أكثر. لن نلتقي يومًا لكننا نتشارك هذا العبء، هذه المشاعر التي لا تجد لها مخرجًا. ما يوحدنا هو هذا الألم المشترك. هذا السؤال الدائم الذي لا نجد له إجابة. كيف نستمر في الحياة ونحن نعرف أننا مجرد أرقام في نظام لا يرحم؟
في النهاية، ربما ما نحتاجه ليس الهروب من الألم، بل استعادة القدرة على أن نكون أكثر من مجرد مشاهدين صامتين لواقع مليء بالقسوة, أن نحاول، بقدر ما نستطيع، أن نجد طريقًا للخروج من هذا السجن الذي بنيناه حول أنفسنا.