د. إبراهيم محمد مرجونة يكتب: ذكريات
بعد أن قطع قطار العمر شوطًا كبيراً ودنت المحطة النهائية وخلال هذه الرحلة دائمًا ما يتملكني الحنين لا أستطيع أن أتجاوز بعض الذكريات من بينها المؤلم ولكنه علمني أقوى الدروس و بعضها ذكريات جميلة أجد نفسي كلمها تذكرتها ابتسمت كطفل صغير يبحث عن أي مصدر للسعادة حتى لو كانت في ألبوم الذكريات فقط.
ومن بين الذكريات التي تراودني في أغلب الأوقات الذكريات الحزينة ولا أعلم لماذا هل لأنني تماسكت حينها، وكان يجب أن أذرف الدموع أم بسبب انني ألفت الحزن أو هو الذي وجد في الصحبة و الرفيق.
تراودني ذكريات الطفولة زملائي في المدرسة الابتدائية ورفقائي كانوا كُثر لكنني عشت معهم لحظات رائعة كنا مجموعة من الفتيان البريئة معدومي الخبرة كنا نتقاسم كل شيء بيننا الشطائر و الحلويات و الحب، إنها لحظات نادرة ثمينة عشتها و أتذكرها دائماً فتبعث في قلبي البهجة وأستشعر كل معاني البراءة والنقاء.
أجدني اتنقل بين ألبوم الذكريات وأقف عند مشهد وفاة أمي بين زراعي أتذكر وجهها الجميل النضر بدا و كأنه البدر في ليلة مباركة يشع النور منه فيملأ الكون، أتذكر دموع أبي الحبيسة وتعابير الصدمة التي اعتلت ملامح إخوتي الكبار وتفكيري كيف سنعيش وقد مات الكرم والحب والحنان، ثم تلا ذلك ببضعة أشهر وفاة والدي- كانت تنتابني حالة من الذعر في كل ليلة تخيلت أن أحدًا يأتي و يسرقنا أو يعتدي علينا أو يخرجنا من منزلنا فكان عدم الأمان هو الشعور المسيطر علىّ، وظل يراودني لفترة ليست بالقليلة، فقد مات السند والعون والصديق.
أتذكر إخوتي وأخواتي واولادهم وبناتهم ومواقف حفرت كالنقش الفرعوني تحمل في طياتها كل ما هو جميل ومفرح وسعيد.
أتذكر أصدقائي الذين كانوا لايفارقوني أبدًا، فقد نشأت بيننا ألفة ومحبة غريبة كنا نفعل كل شيء سويا. وبعد مضى محطات عدة من قطار العمر أصبح البعض منهم كأنه شخصًا غريبًا عني أقابله في مناسبات وظروف حياتية وأحييه وأقبله ثم ينتهي كل شيء كأنه لم يكن.
تعلمت في هذه الحياة الكثير لا أحد يدوم حتى لو فعلت كل ما بوسعك لإبقائه فإن القدر سوف يهزمك. لن تعلم قيمة الشيء الذي تملكه حتى تخسره، ولكن الحقيقة هي أنك دائمًا تعلم قيمة ما تملك، وَلكن لا تعتقد أبدًا أنك سوَف تخسره يوَمًا.
أتذكر بعض الأشخاص الذين كشفهم الوقت قد تغير اسمهم في قائمتي فلم يعدوا أولئك الأصحاب غيرهم الزمن و كشف لي عن أقنعتهم هم ممثلون متلونون بمائة وجه يتنكرون وراء قناع المحبة وابتسامة صفراء تبدِ أكثر مما تخفي.
للذّكريات تجاعيد، تماماً كالسّنين، لكنّها تسكن الأرواح لا الوجُوه.
أتذكر رباعيات صلاح جاهين ومنها:
إيه اللي لما تقطعه بتصنعه؟
ولما تيجي تصنعه تقطعه؟
ده لغز.. حله الصح هو: التاريخ
وفيه لغز جوّه اللغز.. مين يسمعه؟
ولعلّ الذكريات الجميلة هي تلك اللحظات وحدها من تدفئ استمرارية نبضات قلوبنا في هذا العالم. يمرّ العمر بسرعة ويحمل معه صدى ذكرياتٍ جميلةٍ ورقيقة، وصور أحداثٍ أليمةٍ وموجعة.
لا يعلم الإنسان أن حياته تبقى رهينة أيّامٍ معدودة تشكّل استثناءً في مسيرته ويمكنها أن تلخّص محطّات عمره الأساسيّة. وقد يتمنّى لو أن باستطاعته العودة إلى الماضي، إلى ذلك اليوم الجميل الذي كتب في وريده أحرفًا من حنين.
ومع الإبحار في بحر الذكريات كن متفائلاً ولا تجعل الألم أو الحزن يهزمك فالتفاؤل معناه المَيل والنظر إلى الجانب الأفضل المُشرِق من الحياة، وتوقُّع أفضل النتائج في أصعب الأحوال، والتفاؤل يعدُّ كذلك وجهةَ نظرٍ في الحياة؛ فيقول ربنا عز وجل في كتابه العزيز: { وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على التفاؤل في أحاديث كثيرة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ، قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ)، رواه البخاري ومسلم.
ومن أجمل الآثار التي نرددها دائمًا: “تفاءلوا بالخير تجدوه”، ما أروعها من عبارة موجزة عميقة المعنى عظيمة الفائدة! فهي خير عون وسند في عالم الذكريات.