جمال أبو الفضل يكتب: قطار الغربة
كان لا بد من ركوب القطار.. لم تكن تلك التجربة هى الأولى فى ركوب قطار، لكنها لم تحدث منذ زمن بعيد، ولم أكن أتخيل أن تتغير الملامح الاجتماعية والتفاصيل إلى هذه الدرجة التى جعلت من القطارات فى مصر وسيلة مواصلات مملة ورتيبة لا يستفيد منها المسافر إلا بلحظة الوصول.
قديمًا، كانت قطارات مصر حالة اجتماعية ثقافية متفردة فى ذاتها، ومضمون ما يجرى داخل أى قطار طيلة مدة السفر كان الأحاديث الجانبية، التى تفتح أبوابًا لـ علاقات وصداقات قد تستمر لبقية العمر، حتى المسافات وإن كانت قديمًا تطول قبل اكتشاف السرعات الهائلة للديزل والمونوريل وغيرها، لكنها كانت مسافات على عقارب الساعة وقضبان السكة الحديد فقط، بينما هى فى قلوبنا وعقولنا محض أوقات لطيفة تمر فى لحظات.
أذكر ذات مرة ـ وقت أن كنت جنديًا بقيادة وحدات الصاعقة ـ أنى ركبت قطارًا من الإسكندرية إلى القاهرة، كان القطار شعبيًا، شعبيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى سياسى واجتماعى وديموغرافى وفولكلورى، الطلبة يخالطون الفلاحين الذين يخالطون بدورهم موظفي الحكومة والمتنقلين عبر القطار، كانت الأحاديث شيقة ومثمرة، وفجأة سكت الجميع ليعلو صوت غناء شجي.. كانت فرقة إنشاد صوفى وشعبى تستقل معنا القطار، فقررت تسلية الركاب.. لم يكن القطار فى هذا الوقت من أواخر التسعينيات مزدحمًا بالبشر بقدر ما ازدحم بالألفة والمحبة والسمر.
الظروف اضطرتنى الى تكرار تجربة ركوب القطار بعد أكثر من 19عاما، كانت تلك المدة كفيلة لتتغير معها ملامح القطار تبعًا لتغير ملامح مصر الاجتماعية كلها، وكان السر فى مجرد شاشة موبايل مثل الساحرة الحمقاء التى تستهوى العقول وتخطف الأعين، فلا يدرى إنسان ما يجرى حوله أو من يجلس بالقرب منه حتى وإن كانوا على معرفة سابقة.
كان قطارًا من نوع VIP الفاخر، لكنه كان مملا فى ملامحه، فاخرًا فى غربته وغيبوبة كل من يجلس فى كرسى ويسلم عينه وعقله لشاشة هاتفه، ليست الأعين وحدها التى قررت الغياب طوعًا، لكن الآذان أيضًا صُمت بسماعات بلاستيكية صغيرة حجبت ما تبقى من صوت الطبيعة.
تجربة “القطار” يمكن القياس عليها حتى داخل البيوت المصرية، كلُ فى شأن يغنيه، كأن قطار الغربة وصل إلى جميع غرف البيوت المصرية.
إدمان التكنولوجيا قضية خطيرة على المجتمع، لا بد من مواجهتها بجميع الأساليب والدراسات النفسية والاجتماعية حتى يتوقف توغلها، فتزرع الفرقة بين عناصر الأسرة الواحدة.
ومن المؤسف أن بعض الأسر المصرية أصيب بحالة الخرس الأسرى، فأصبح جميع أفراد الأسرة يتواصلون مع بعضهم بعضًا عبر موقع التواصل الاجتماعى والـ “واتس آب“، كل منهم يتعلق بهاتفه ولا يشغله شىء إلا ما يتابعه عبر السوشيال ميديا، وأصبحوا غرباء على الرغم من تواجدهم فى غرفة واحدة، فتجد الأب يطمئن على ابنه من خلال رسالة عبر الـ “واتس آب” أو تعليق على الـ “فيس بوك”، فيما يرد الابن بـ “كومنت” على أحد منشورات الوالد، وكذلك البنت ترد على الأم فى تعليق أو رسالة عبر مواقع التواصل الاجتماعى.
إقرأ أيضـــــا …. الرئيس السيسي وكلمة مصر العليا
النسيج المجتمعى لمصر هو ما يميز قوتها على مدى العصور، ويعتبر أهم منبع لقواها الناعمة وتراثها الحضارى والفكرى، وحين تتهدم تلك الفكرة سيصبح الاختراق بكل أنواعه ومحدداته متاحا لتغيير هوية مصر.
قطار الغربة وصل فى موعده المحدد، لكنه لم يصل بنا إلى ما نرجوه وما نتمناه من شعب يزيد مسافات التباعد بين أفراده وعناصره إلى مجهول لا نعرفه.
فى النهاية أسأل الله العظيم أن يحفظ مصر ورئيسها وشعبها العظيم، وأدعو الله أن تعود بيوتنا كما كانت زمان، دافئة بلمة الأسر المصرية العظيمة، بعد أن أصيبت بمرض التشتت الأسرى فى العصر الحديث، وأصبحنا لا نرى أفراد العائلة إلا فى الأعياد والمناسبات.