ساحة الرأي

“السراب الذي نلاحقه”.. من حفلات السعودية إلى مطعم بوراك

بقلم: هدير عبد الوهاب

في الأيام القليلة الماضية، انشغل المصريون بحفل مصمم الأزياء اللبناني إيلي صعب في السعودية، وما رافقه من أداء استعراضي للمغنية العالمية جينيفر لوبيز. أثار الحفل جدلًا واسعًا ونقاشات حادة متعلقة بالتغيرات الثقافية والدينية في المملكة التي اعتبرها البعض غير مقبولة.

وفور الانتهاء من هذا الجدال, بدأ الانشغال مباشرةً بمطعم الشيف بوراك، الذي افتتح حديثًا في القاهرة، وأحدث ضجة كبيرة بسبب أسعاره المرتفعة, فالبعض انتقد الأسعار المبالغ فيها, والبعض الآخر تهافت للتجربة مهما كانت التكاليف.

ربما يبدو للوهلة الأولى أن الحدثين منفصلان، لكن بعد النظر للمشهد بتمعن ستلاحظ أنهما يعكسان أزمة في الوعي وفي تغير الأولويات داخل المجتمع. فرغم اختلاف هذين الحدثين في الشكل، إلا أن تزامنهما يكشف جانبًا عميقًا من التحولات الاجتماعية والثقافية في مصر.

كلا الحدثين يسلطان الضوء على اختلاط الأولويات لدى شرائح واسعة من المجتمع، إذ انشغل كثيرون بقضايا سطحية وأثارت ضجة تجاوزت ما يمكن اعتباره طبيعيًا.

أصبحت الموضوعات عديمة القيمة تطغى على الأولويات الحقيقية وتتصدر مواقع التواصل الاجتماعي. وبينما ينشغل آخرون بالنقاشات حول تصرفات دول أخرى، تظل القضايا الأكثر إلحاحًا – مثل التعليم, الصحة, والوعي الثقافي – بعيدة عن دائرة الاهتمام.

وهذا يفتح باب التساؤل عن ما الذي حدث للعقل الجمعي للمصريين حتى ينشغل بهذه الطريقة بما لا يمس جوهر حياتهم؟

مطعم بوراك: هوس المظاهر

أسعار طعام مرتفعة؟ لا مشكلة. المهم أن تنشر صورة على إنستغرام، لتوثق زيارتك للمطعم الشهير. هذا هو المنطق الذي دفع الكثيرين للتهافت على حجز مقعد في مطعم الشيف بوراك، متفاخرين بأنهم “جزء من الحدث”.

ورغم ذلك لم يترددوا في انتقاد أسعاره المرتفعة، مع أنهم لم يُجبروا على الذهاب إليه.

لكن، هل فكرت ما الذي دفع هؤلاء الأشخاص للتصرف هكذا؟ هل هو حب للطعام؟ أم الرغبة في الانتماء لصورة اجتماعية معينة؟ الحقيقة أن ما يحدث يعكس هوسًا بالمظاهر.

فقد أصبح الانتماء إلى “مجتمع الرفاهية” ولو على حساب الميزانية الشخصية، طريقة للبحث عن قيمة ذاتية، في حين تتراكم الاحتياجات الأساسية في الخلفية، دون اهتمام.

وربما تكون هذه الظاهرة، وهي ليست مقتصرة على المصريين، جزءًا من حالة أكبر، حيث صار الاستعراض على وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا من الهوية الشخصية. لكن، في بلد مثل مصر، حيث الفجوة بين الطبقات تتسع يومًا بعد يوم، فإن هذا السلوك يحمل دلالات أخطر. فهو يعكس تناقضًا مؤلمًا بين التطلعات الفردية وبين الواقع الذي يعيشه كثيرون.

إقرأ أيضاً: “الحريفة 2” يتصدر سباق الإيرادات بـ71 مليون جنيه خلال أسبوعين فقط

السعودية: جدل بلا نهاية

الحدث الآخر، وهو النقاش المحتدم حول حفلات موسم الرياض في السعودية، يثير تساؤلات مختلفة. لماذا لا نترك لكل دولة حقها في اتخاذ مسارها الخاص؟ وننشغل بما يجعلنا أفضل بدلاً من إهدار الوقت في نظريات لا تضيف شيئًا لحياتنا, لماذا ننشغل بما لا يخصنا مباشرة وتثيرنا تصرفات دول أخرى بهذا الشكل العاطفي؟

البعض يعتبر الأمر “واجبًا دينيًا”، بينما آخرون يرونه فرصة للنقد والتعبير عن الإحباط. لكن الحقيقة أن جزءًا كبيرًا من هذا الجدل يغذي انقسامات لا طائل منها.

من المثير للدهشة أن الكثير من المشاركين في هذه النقاشات ربما لا يملكون معرفة عميقة بما يتحدثون عنه. الأمر لا يتعدى كونه صخبًا عامًا يهدف إلى إثبات وجهة نظر، أو ربما البحث عن الاحساس بالانتصار ولو فقط في معركة كلامية.

في كثير من الأحيان، نجد أنفسنا نبحث عن متنفس من ضغوط حياتنا اليومية من خلال الانشغال بأحداث وقضايا بعيدة عن حياتنا الفعلية. فإننا نميل للتفاعل مع هذه الأحداث بشغف ونقاش مطول، وكأنها نافذة للهروب من التحديات التي نواجهها كل يوم.

الحقيقة هي أن المجتمع المصري، مثل كثير من المجتمعات، يمر بمرحلة من “الانفصال عن الواقع”. فبدلًا من التركيز على تحسين أنفسنا أو البحث عن حلول للمنغصات التي تؤرق حياتنا، نجد الراحة في الانشغال بالآخرين وبما يفعلونه. ونغرق في موضوعات سطحية، أو معارك كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع, ربما يكون هذا أسهل من مواجهة الحقيقة والعمل على تغييرها.

الحل؟

الحل يبدأ من الفرد. لا يمكن أن نتوقع تغييرًا إذا لم يبدأ كل شخص بمراجعة أولوياته. بدلاً من الاهتمام بما يفعله الآخرون، سواء كانوا أفرادًا أو دولًا، لماذا لا ننشغل بما يجعلنا نحن أفضل بدلًا من أن نكون مجرد متفرجين على حياة الآخرين.

دين الإسلام، وهو محور نقاش الكثيرين، لا يحتاج إلى الدفاع عنه بهذه الطريقة الانفعالية. فهذا الدين قوته تكمن في فهمنا العميق له، وفي تطبيقنا لقيمه الأساسية: العدل، احترام الآخر، والعمل الجاد. إذا كنا نريد أن نكون قدوة، فلنبدأ بأنفسنا.

أما عن الهوس بالمظاهر، فهو يتطلب وعيًا جماعيًا جديدًا. ليس من الخطأ أن تستمتع بوقتك، أو أن تجرب شيئًا جديدًا. لكن الخطأ هو أن تجعل هذه الأمور محور حياتك، أو أن تضحي بما هو أهم من أجل لحظة مؤقتة من الاستعراض.

ربما يكون ما نحتاجه حقًا هو إعادة بناء طريقتنا في التفكير. فنحن نحتاج إلى عقلية تتحرر من قيود الأوهام التي صنعناها لأنفسنا، تلك التي تجعلنا نطارد المظاهر وننشغل بالقضايا السطحية. لنستطيع أن نميز بين ما يستحق أن نوجه طاقتنا نحوه وما هو مجرد تشتيت.

نحن بحاجة إلى تعلم البديهيات من جديد: أن تحترم خصوصية الآخر، أن تركز على ما يجعلك أفضل، أن تترك ما لا يعنيك.

إن التغيير الحقيقي لن يأتي من نقاشات عديمة الجدوى على وسائل التواصل، التغيير يبدأ حين نقرر، كأفراد، أن ننظر إلى أنفسنا، ونتخذ خطوات صغيرة لكنها حقيقية. لن يحدث ذلك بين ليلة وضحاها، لكنه سيحدث عندما نؤمن بأننا نستحق واقعًا أفضل مما نحن فيه الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى