محمد حراز يكتب الأشاير والبشاير ..الفصل الثالث
- قُرب فجر اليوم الرابع لمسيرة ليلة الإسراء والمعراج، ظهر الشيخ مرجان الطيار وسط السوق وعلى رأسه شوالا من الخيش يتدلى فوق ظهره، ممتطيًا جريدته التي جعل منها حصانا ، وهو يصرخ في هلع: الخليفة اتقتل .. الخليفة اتقتل..
- فسارع الناس، ليتبينوا الأمر.. وقد تداخلت همهماتهم؛ ليشقها صوت المعلم عباس سردينة (في استغراب)
- أنتَ بتقول ايه يا شيخ مرجان؟!
الشيخ مرجان (وهو ينتفض): قتلوا الخليفة يا عباس .. قتلوه يا عباس.
عباس سردينة (وقد علت وجهه ملامح الدهشة والإنكار معًا): الخليفة؟!
مرجان: أيوه الخليفة .. الخليفة، (وقد دخل في نوبة بكاء ….)
المعلم عبده القهوجي: استهدى بالله يا شيخ مرجان وقولنا مين دول اللي قتلوه، وامتى ده حصل؟!
الشيخ مرجان: الحرامية .. الحرامية، دخلوا علينا الأوضة، واحنا نايمين، خنقوه ونطوا من الشباك…
عبده القهوجي: مشفتش حد منهم؟!
مرجان: كانوا مخبيين وشهم..
هنا ظهر الشيخ أحمد القللي في الشارع (وهو يردد في تكرار): مدااااد؛ حيَّ .. مداااد .. حيَّ
شكَّل مقتل الخليفة، صدمة كبيرة هزت أرجاء المدينة بالكامل، فقد بات الناس يتحدثون عنها في كل مكان .. في الشارع، على المقاهي، حتى انتقلت أصداؤها إلى داخل المنازل وأصبحت حديث النساء؛ فالشيخ سعدالله رجل طيب ومسالم، ليس له خصومة مع أحد، ولا توجد بينه وبين أحد عداوة ..
لكن الغريب أن الريس حمدون لم يصدمه خبر مقتل الخليفة، ولم يُعرهُ الاهتمام المتوقع، إذ كانت تجمعه بالخليفة رابطة قوية، وقد كان يقوم بالإنفاق على مسيرات العام كاملة، فجاء موقفه تجاه مقتل الخليفة مثيرا للدهشة عندما جَاءَهُ المعلم عباس سردينة ليسأله، كيف حدث ذلك..
- المعلم عباس سردينة: معقول ياريس حمدون يعملوا كده في الراجل الطيب، ويدخلوا عليه يخنقوه بالبشاعة دي، ولسه المسيرة معداش عليها يومين تلاته.. (ضاربَا كفا بكف) وهو يقول
- لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله
الريس حمدون: ومستغرب أوي كده ليه يا معلم عباس؟! ، ماهي البلد حالها كله متلغبط، وبقت سايبه، كل شوية جريمة قتل، وكل مرة يطلع الفاعل مجهول، كأننا عايشين في غابة..
المعلم عباس: أيوه .. لكن الراجل ده عمره ما أذى حد ولا طَوِّل لسانه على حد!!
الريس حمدون: يا معلم عباس الحكومة دي، كانت عايزة حاجة تصحيها من الغفلة والنومة اللي هي فيها .. مش يمكن قتل الشيخ سعدالله يحركها بدل ماهي نايمة على ودانها، ونعرف مين اللي طايح في البلد بالشكل ده، لا هَمهُ حكومة، ولا في دماغهُ حد؟!
المعلم عباس سردينة (متذكرا من سبقوا إلى نفس المصير): حريمس الغلبان .. والست بهانه الخبازة .. ومتولى قصاص الحمير .. وغباشي الحلواني .. والنهارده الشيخ سعدالله، لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، هي البلد جرى فيها إيه؟!
الريس حمدون: بالإذن يا معلم عباس، هاوصل المركز، البيه المأمور باعتلي، أروح أشوف عايزيني في إيه .. ربنا يستر
مركز البوليس
المأمور: ازاي وصلوا للخليفة يا رشدي افندي؟! ومين اللي له مصلحة في قتلهُ؟!
اليوزباشي رشدي: يا حضرة المأمور صحيح خطتي كانت استبدال الخليفة، لكن مش بالتخلص منه، في طرف سابقنا بخطوة، المجرم ارتكب جريمته، علشان يدخلنا في دوامة.
المأمور: أو علشان يحرجنا أمام قيادتنا..
اليوزباشي رشدي: ودا بيخليني متأكد أن هناك علاقة بين الجرائم الخمسة السابقة وبين شخص واحد؟!
المأمور: وقوع الجرائم وقت المسيرة والإبلاغ عنها في اليوم التالي، يؤكد أن المجرم بيستغل انشغالنا بتأمين المسيرة، ويقوم بارتكاب جريمته، ويشغلنا تاني يوم علشان يبعد الأنظار عن أمر خطير يقوم به، لكن قتل الخليفة بعد ثلاثة أيام من المسيرة بيعقد الأمور أكثر…
هنا يطرق الشاويش خليل باب المكتب..
المأمور: أدخل
الشاويش خليل يعطي التحية لليوزباشي رشدي
اليوزباشي رشدي: في إيه يا شاويش؟
الشاويش خليل (هامسا إلى اليوزباشي رشدي بصوت منخفض): الشيخ مرجان الطيار هو أول واحد نشر خبر مقتل الشيخ سعدالله
اليوزباشي رشدي: وهو فين دلوقتي؟
الشاويش خليل: في مكتب سعادتك يا فندم..
اليوزباشي رشدي للمأمور: كده أقدر أقول لحضرتك إن قدرت أحط إيدي على أول خيط في القضية، بعد إذن سيادتك..
دخل اليوزباشي رشدي على الشيخ مرجان فوجده يبكي بكاء الأب عند فقد ابنه، فهدأ من روعه، وطلب من العسكري الموجود خارج المكتب بإحضار كوب من الليمون..
اليوزباشي رشدي: اشرب الليمون و استهدى بالله يا شيخ مرجان، واحكيلي كل شيء بالتفصيل..
استمع اليوزباشي رشدي للشيخ مرجان وهو يقص عليه لأكثر من نصف ساعة، ثم طلب منه عدم إخبار أحد أنه جاء إلى مركز البوليس مهما حصل.
اليوزباشي رشدي: تمام يا شيخ مرجان، طبعا انت بتحب الشيخ سعدالله، الله يرحمه..
يبكى الشيخ مرجان وقال: بحبه؟! دا كان كل حاجه ليا، كان بيوكلني و بيعطف عليا .. الناس كانوا بيضربوني وهو بيطبطب عليا، ويقولي الناس مش بتكرهك يا مرجان، دول بيحبوك..
ثم دخل الشيخ مرجان في نوبة بكاء وقال: الأشرار قتلوك يا شيخ سعدالله
اليوزباشي رشدي: طيب يا شيخ مرجان علشان نقدر نقبض على الناس الأشرار دول، يبقى زي ماتفقنا مفيش مخلوق يعرف انك كنت هنا
الشيخ مرجان: مفيش حد هايعرف..
انصرف الشيخ مرجان قبل مجيء حمدون أبو دقه بدقائق، وما أن وصل حمدون إلى مركز البوليس حتى طلب لقاء المأمور، فسمح العقيد رفعت الجيزاوي له بالدخول..
الريس حمدون: صباح الخير يا سعت البيه
المأمور: صباح الخير .. ازيك يا ريس .. اتفضل اقعد
حمدون: نحمده ونشكر فضله يا سعت البيه
المأمور: حوادث القتل كترت في البلد يا ريس، وتعاونك معانا مش بالقدر المطلوب..
حمدون: أنا ببلغ بكل حاجه بتحصل في البلد أول بأول يا سعت البيه
المأمور: تفتكر مين له مصلحة في قتل الشيخ سعدالله يا ريس؟!
حمدون يقوم بعدل تلفيحته الحرير على كتفه الأيسر ثم قال: الله يرحمك يا شيخ سعدالله، الراجل طول عمره كان في حاله، وعمره ما أذى حد
المأمور بصوت عالي: تفتكر مين قتله يا حمدون
الريس حمدون: ولاد الحرام كتير يا سعت البيه
المأمور: أيوه .. يعني مفيش كلام بيتقال في البلد كده ولا كده؟!
حمدون: الناس مورهاش غير الكلام، وزي ما بيقولوا إن دم حريمس وغباشي والخبازة، وقصاص الحمير راح هدر، بيقولوا دم الشيخ سعدالله هايروح هدر هو كمان.
المأمور: طيب يا ريس، لو وصلت لأي معلومة ياريت تبلغنا فورا، مع السلامة.
الريس حمدون: بالإذن يا سعت البيه
انصرف حمدون وقبل قيامه بفتح باب المكتب ليخرج، نادى عليه العقيد رفعت الجيزاوي بصوت عال: حمدون…..
هنا ارتعدت مفاصل حمدون أبو دقه، ودق الرعب في أعماق قلبه، وارتعدت مفاصله، لكن سرعان ما تمالك نفسه ولملم أعصابه، فوقف ثم التفت قائلاً: أفندم يا سعت البيه.
المأمور: ما تنساش .. أي معلومات توصلك، تبلغنا.
تنهد الريس حمدون وبلع ريقه ثم قال: حاضر يا سعت البيه
بعد انصراف حمدون، ظهر اليوزباشي رشدي الذي حضر اللقاء دون أن يراه حمدون، فسأله العقيد رفعت الجيزاوي: إيه رأيك يا رشدي افندي؟!
اليوزباشي رشدي: ارتباك حمدون، لما سعادتك فاجأته وناديت عليه قبل ما يخرج، يقول أنه مخبي حاجة مهمة..
المأمور: تمام يا رشدي افندي .. يبقى توكل على الله، ونفذ الخطة اللي اتفقنا عليها فوراً…
نرجس في منتصف العقد الثالث من عمرها، والتي يحبها مظهر أفندي باشكاتب شونة جمع الأقطان، ذهبت إلي أم توحتح وكانت تغطي وجهها بالياشمك التركي، وتلبس الملاية اللف
نرجس: العواف يا ام توحتح..
أم توحتح: يعافيكي ياست البنات..
نرجس: عيزاكي تعمليلي وصفة تقرب الريس حمدون، وتخليه ما يطقش البعاد..
أم توحتح: الريس حمدون مَهرهُ غالي
نرجس: متخافيش يا ام توحتح، أنا هابسطك..
أم توحتح: طب اسمعي، هاتجيبي سبع نوايات مشمش؛ تنعميهم بين حجرين محروقين، وتخلطيهم بسبع حبات كسبرة، وسبع حبات حلبة، وعليهم سبع حبات فلفل اسود، و ترشيهم على عتبة الحلقة قبل النهار ما يشقشق وتدعيلي..
نرجس: لو حصل المراد يا ام توحتح، مقلكيش حلاوتك هاتبقى قد إيه، ثم تضع يدها في صدرها وتخرج لفافة تفتحها، وتعطي أم توحتح ريال..
أم توحتح: أنا عاوزة جنيه؛ جنيه مصحح، كل فولة ولها كيال يا ست البنات، والريس حمدون أنتِ عارفة بقى…
نرجس: طيب ومظهر افندي باشكاتب الشونة، اللي قاطع عليا السكة في الرايحة و الجاية….
أم توحتح: خليه متعلق زي عصفور الزينه، كل ما يشوفك يزقزق ……
فتضحك نرجس وتقول: خليه متعلق يا ام توحتح..
إلى اللقاء في الفصل الرابع