ساحة الرأي

محمد حراز يكتب الآشاير والبشاير.. الفصل الأول

 

تدور أحداث الرواية في أحدى المدن المصرية الواقعة على الضفة الغربية للنيل، وتحديدا عند المصب الغربى للنهر، فالمدينة يحدها البحر المتوسط من الشمال ..

أما من الغرب فيحدها الكثير من أشجار النخيل التى اشتهرت بها المدينة القديمة؛ والتى اشتهرت أيضا بالكثير من العادات والتقاليد التى أصبغتها بها قوى الاستعمار المتعاقبة ؛ من العثمانيين والفرنسيين والإنجليز، لتترسخ فى الوجدان الثقافى لأهلها عاداتٌ ربما اختلط فيها التدين الوجدانى بمظاهر احتفالية غريبة تعود فى جذورها إلى العصر الفاطمي البعيد، وربما كان موكب الخليفة هو أشهر تلك التقاليد وأكثرها غرابة؛ حيث يترنح ذلك الرجل المغطى بردائه الأخضر فوق فرسه الذى يطوف به أسواق المدينة القديمة، والذى يدعي أتباعه والمنتفعون من حوله أنه خليفة المسلمين، حيث يخرج تتقدمه البيارق والأعلام وفرق الإنشاد الديني في المناسبات الدينية الكبرى فى مسيرة تسمي الأشاير..

تشتهر المدينة بكثرة مساجدها وتنتشر بها الأضرحة والمقامات التي يقدسها الأهالي، الذين يعمل أغلبهم بمهنة الصيد، ويحرصون على إنارتها بالشموع….

عثمان المشعلجي يبلغ من العمر ٥٢ عاما، جاء من بلاد النوبة وهو في مقتبل شبابه، عاش وكبر وسط الناس، وعمل ببلدية المدينة، واختلط بالأهالي حتى أحبهم وأحبوه، كانت مهنته هي إضاءة الفوانيس المعلقة في الشوارع، بعد أن يقوم بتزويدها بالزيت كل يوم..

وكعادته انطلق عثمان المشعلجي مع غروب شمس الخميس، ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، وهو يحمل سلم خشبي صغير على كتفه الأيسر، ويمسك في يده اليمني المشعال ليقف أمام حلقة الريس حمدون أبو دقه صاحب أكبر أسطول لمراكب الصيد بالمدينة والذى كان له حلقة كبيرة لبيع الأسماك ..

أسند عثمان المشعلجي السلم على الحائط المواجه لحلقة المعلم حمدون ثم صعد عليه، لإضاءة الفانوس..

الريس حمدون(بصوت عال): اجدعن ياعثمان، زفة الخليفة هاتمر بعد صلاة المغرب من السوق والبلد كلها طالعه وراه، مدد ياسيدي مدد….

عثمان: حاضر .. خلاص باجي ثلاثة فانوس، ويكون كل الفانوس خلص

الريس حمدون: أهم حاجه يا عثمان تكون ظبطت الفوانيس عند مقام سيدنا الولي، الزفة هاتخرج بعد شوية عايزين البلد تلعلط..

عثمان: كله هناك خلص ياريس حمدونه
الريس حمدون: الله ينور ياعثمان

عثمان: وعليك ياريس حمدونه

الريس حمدون: تعرف أنا بحبك يا عثمان، وبحب اسمع صوتك ليه؟!

عثمان: ليه ياريس حمدونه؟!

الريس حمدون: علشان وانت بتقول ياريس حمدونه بتطلع منك عسل منقط..

عثمان: وانا كمان بنحبك علشان انت راجل مظبوط
الريس حمدون: طب شوف بقى بالصلاة على النبي، المراكب داخلة النهاردة بخير كتير، ابقى عدي عليا بعد البشاير متخلص، علشان تاخد سمكتين للولاد
عثمان: ربنا يخليك ياريس حمدونه..

في هذه الأثناء جاء صبي يدعى توحتح يتراوح عمره بين السابعة عشرة والثامنة عشرة، يجري ناحية الريس حمدون وينادي: يا معلمي.. يا معلمي
الريس حمدون: في إيه يا ولا؟!

توحتح: المراكب دخلت من البوغاز ياريس بالسلامه، والرجاله منتظرينك ياسيد الناس

الريس حمدون: مراكب إيه يا ولا، دا الخليفة هايعدي خلاص بعد خمس دقايق، ومقام سيدي أبو عتمان ماني ماشي غير بعد الزفة، تبقى البلد كلها خارجه وراه، وااني عند المراكب، دا لا يمكن يحصل أبدا، روح بلغ الرجالة يجهزوا التلج ويظبطوا الطوايل، لحد ماتخلص الزفة، وبعدين أجيلكم..

توحتح: حاضر يا سِيد الناس، ثم يجري توحتح، ويقول مدااااد ياسيدى مدد
الريس حمدون: سمك ورجالة قال، إحنا عايشين غير ببركة سيدنا الولي..

تبدأ مسيرة الخليفة وقد أنارت الفوانيس الشارع الرئيسي، وكذلك الشوارع الجانبية، وما هي إلا دقائق قليلة، وظهرت البشائر بمرور عدد من المجاذيب الذين كانوا يتقدمونها، ويتقدمون صفوف الأهالي وهم يهللون ويكبرون وينادون بأصواتهم مدااااااد .. حيَّ؛ مدااااااد .. حيَّ؛ مدااااااد .. حيَّ

كان من بين هؤلاء المجاذيب الشيخ أحمد القللي ذلك الشاب الوافد على البلدة منذ ما يقرب من عامين، مثله مثل الكثير من هؤلاء المجاذيب الذين يأتون إلى المدينة من كل البلدان المحيطة، يعيش هؤلاء بين أهلها، لا يعرفون من أين جاءوا، ولا يعرفون من هم، ولا يعرفون عنهم سوى نوادر وحكايات، أما الشيخ أحمد القللي كما أطلق عليه أهل المدينة والذي يبلغ من العمر تسعة وعشرين عاما، كان يسير حافيا، بيده دوما (قلة) من الفخار لا تفارقه، وكان لا يشرب إلاَّ منها، وكان يرتدي ملابس قديمة من الخيش أو من الصوف الخشن، وكانت دائماً ما تكون ممزقة من أعلى كتفيه، أو من فوق صدره، وكان يرفض ارتداء الملابس الجديدة إذا ما جاء بها أحد إليه..

اشتهر الشيخ أحمد بقوته الخارقة، بعد حادثة سقوط حصان الخليفة في حفرة أمام وكالة المعلم عباس سردينة، أثناء مسيرة العام الماضي، فنزل الشيخ أحمد إلى الحفرة، وقام برفع الحصان بالخليفة وهو جالس فوقه، فأخرجه من داخل الحفرة..

شاهد الشيخ أحمد الريس حمدون جالس أمام باب الحلقة فاقترب حتى دنا منه ثم قال: مداااااااد؛ مدد .. خلي بالك اللي غايب ماهش راجع، واللي قاعد ماهش عاجب مداااااااد ..مدد

الريس حمدون: امشي مشش في ركبك مجنون زي أهلك

المعلم دعدور أبو الروس: السلام عليكم يا ريس حمدون

الريس حمدون: وعليكم السلام يامعلم دعدور خطوة عزيزة .. الخير على قدوم الواردين

المعلم دعدور أبو الروس: مالك ومال الشيخ أحمد ياريس؟!

الريس حمدون: ماتخدش فى بالك يامعلم دعدور، هو كده علطول

المعلم دعدور: أُمال أول ما شافني قام كاسر القلة وقايل، خلي بالك اللي غايب ماهش راجع، واللي قاعد ماهش عاجب .. مدد

الريس حمدون: هو كده كل مايشوف واحد من اللي بيشتغلوا معايا يعمل كده، ماتخدش في بالك يابو كرومه دا ولد مجنون..

المعلم دعدور: طيب طمني، المراكب دخلت؟!

الريس حمدون: اقعد اشرب الشاي واتفرج ع زفة الخليفة وبعدين نتكلم

مركز البوليس

في غرفة كبيرة يقف مأمور المركز وأمامه مكتب كبير، وخلفه صورة معلقة على الحائط للملك فاروق: شوف يا حضرة اليوزباشي

اليوزباشي رشدي: أفندم
المأمور: عايز رجالتك يكونوا موجودين في كل مكان، عايزهم يكونوا مصحصحين، يختلطوا بالأهالي وسط زفة الخليفة، لازم يارشدي افندي الزفة تعدي على خير ..
اليوزباشي رشدي: اطمن يافندم، الشرطة السرية موجودة الآن في المسيرة..

المأمور: المديرية مقلوبة، والوزارة نفسها مهتمة بقضية مقتل الشاب حريمس، وازاي لحد النهاردة مقدرناش نكشف خيوط الجريمة، ونقبض على الجاني…

اليوزباشي رشدي: ياسعادة البيه، المجرم قدر يضلل الجميع، نجح في إخفاء جريمته بإلقاء المجنى عليه في النيل، بعد ما قام بربط إيديه ورجليه، جرفه التيار للبوغاز، اتغيرت ملامح الجثة، وضاعت معالم الجريمة..

المأمور: علشان كده يا حضرة اليوزباشي، عايز تأمين الزفة يكون على أعلى مستوى، وعايز رجال الشرطة السرية ينتشروا بطول شاطيء النيل بصورة متلفتش نظر الصيادين، وإلاَّ هنلاقي نفسنا أمام جريمة جديدة، ونصحى على جثة تانية عقب انتهاء مسيرة الخليفة..
اليوزباشي رشدي: تمام يافندم..
إلى اللقاء في الفصل الثاني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى