ازدواجية مدّعي الحرية.. حين يصبح التنمر سلاحًا باسم التحرر
بقلم: هدير عبد الوهاب
الحرية كلمة جذابة، لذلك يستغلها البعض في البداية لكسب قلوب الناس والوصول إلى الشهرة سريعًا، وتتردد شعارات الحرية واحترام الاختلاف على ألسنتهم كما لو أنها وصايا مقدسة، لكنك تكتشف بعد ذلك أنهم يستخدمونها فقط كستار لتغطية سلوكياتهم الاستعلائية والإقصائية. هؤلاء هم أول المنتقدين وأشد المستهزئين باختيارات وآراء الآخرين، وعند أول اختلاف في وجهات النظر تتساقط الشعارات، ويصبح احترام ثقافة الآخر مجرد عنوان. تناقض صارخ يكشف عن مفهوم حرية هش، لا يحتمل أي رأي مخالف.
فأي حرية هذه التي يُحتفى بها نظريًا، بينما تسقط عند أول اختلاف فكري؟ أي حرية تلك التي لا تتحمل اختلاف الآراء؟ وأي تحرر في مجتمع يضيق صدره بمجرد أن يسلك الآخر طريقًا مختلفًا؟
الحلم بـ”جنة الحريات” المزيفة
هؤلاء يتحدثون عن حرية التعبير، لكنهم يحددون لها حدودًا غير مرئية: حرية تُمنح فقط لمن يتبنى نفس تيارهم الفكري، أما من يختار دربًا مغايرًا فهو في نظرهم مادة للسخرية والتجريح. يُغرقون من يخالفهم في بحر من التهم، ويحمّلونهم كل شطط ومآسي العالم. فجأة يصبح كل مخالف رمزًا للرجعية والشر المطلق الذي يقف في وجه “جنة الحريات” التي يدّعون أنها في انتظارنا إذا تسيد فكرهم.
الوعود التي يطلقها هؤلاء بأننا سنعيش في نعيم من الحريات إذا ما تمكّن تيارهم تبدو في البداية كوعود وردية، لكنها في الحقيقة تخفي وراءها واقعًا مريرًا. كيف يمكن أن يتحقق هذا النعيم في ظل خطاب لا يحتمل الاختلاف؟
إن الحرية التي تُمنح بشروط ليست حرية حقيقية، بل نسخة مشوهة منها، تسعى للهيمنة والسيطرة على العقول.
هؤلاء يمارسون تنمرًا فكريًا من خلال الاستعلاء المبطّن؛ يدّعون امتلاك النضج الفكري والوعي الذي لا يمتلكه أحد غيرهم، كأنهم أصحاب المعرفة المطلقة. ولذلك يعتبرون أنفسهم فوق كل نقد. يخلطون بين النقاش البنّاء والإهانة، وبين الاختلاف في الرأي والاستهزاء بالآخرين، في مشهد يتناقض تمامًا مع قيم الحرية التي يرفعونها كشعارات.
يتناسى هؤلاء أن الحرية لا تعني التسلط، وأن احترام الاختلاف يشمل قبول الرأي المخالف، لا معاملته كوصمة عار. التنمر الفكري قد لا يبدو صريحًا دائمًا؛ أحيانًا يتجلى في شكل سخرية أو لمز خفي يُبرر على أنه “نقد بناء”. لكن في جوهره، يهدف إلى تهميش من يختلف معهم.
إقرأ أيضاً: محمد حراز يكتب مهلا أيها الرفاق
يصبح الرأي المخالف بمثابة تهديد، لا فرصة لنقاش مثمر. بهذا المنطق، يتم استبعاد كل من يتبنى أفكارًا مغايرة، وهو ما يتناقض تمامًا مع فكرة الحرية التي تقوم على التعددية وتقبّل الاختلاف. يمارسون نوعًا جديدًا من التسلط الفكري تحت مظلة التحرر.
في هذه الفترة، اعتدنا أن نرى على مواقع التواصل الاجتماعي من يظن أن له الحق الوحيد في إبداء الآراء، محاولًا أن يرسم للآخرين خطوطًا لا ينبغي تجاوزها، وكأنّ النقد أو التعبير عن أفكار جديدة يشكل تهديدًا له.
وبينما يصرّ بعض “المثقفين” في هذه الفترة على فرض آرائهم على الآخرين، مُستخدمين الأساليب المتعالية للتقليل من شأن أي رأي مختلف، تشغلني أسئلة كثيرة: من هو المثقف الحقيقي؟ وهل دوره يقتصر على توجيه العقول أم تحفيزها على التفكير الحر؟
بالصدفة وأنا أكتب هذا المقال، استمعت للكاتب المصري الراحل يوسف إدريس في برنامج “أمسية ثقافية”. ذلك المثقف الواثق من نفسه تطرق سريعًا إلى هذا الموضوع، وكان حديثه ملهمًا وعظيمًا. في دقائق بسيطة، قدّم لنا رؤية مغايرة كليًا عن دور المثقف الحقيقي بنبرة مليئة بالحكمة والوعي، إذ حثّ الجمهور على عدم انتظار رأيه في كل قضية أو حدث.
فهو لم يسعَ لفرض آرائه وتسليط الضوء على نفسه، أو إلى أن يكون هو المصدر الوحيد للفكر، بل أراد للجميع أن يتحرروا من قيود التبعية الفكرية ويعتمدوا على عقولهم الخاصة. وأن يكون لكل منهم رأي خاص مستقل، نابع من التفكير الحر وليس تابعًا لأي شخصية مهما كانت مكانتها.
قال إدريس في حديثه: “ليه الناس بتطلب وتنتظر رأيي؟ إلحاح الناس في معرفة رأي الكاتب شدة ثقة منهم، ودي حاجة كويسة جدًا، لكن تدل على أن الديمقراطية لم تترسخ بعد. المفروض أن كل واحد يبقى له رأي مستقل، يقرأ للجميع ثم يكون رأيه الخاص، ولا ينتظر رأي أي شخص آخر. وحين يستمع لرأي الآخرين، يقارنه برأيه الشخصي. هذه هي الديمقراطية، حيث يكون محتاجًا لرأي الكاتب استشاريًا فقط، وليس ليكوّن رأيه الخاص.”
لقد أدهشني هذا الموقف. فهذا النوع من المثقفين نادر الوجود في زمننا. ليس غريبًا على شخص مثل الأديب يوسف إدريس أن يُفضل توجيه الناس إلى التفكير والتساؤل بدلاً من التبعية، فقد كان يرى أن المثقف الحقيقي دوره يُرشد ويفتح الآفاق.
لم يكن إدريس مستمتعًا بفكرة أن هناك من ينتظر آراءه ليتبعها دون تفكير، بل شجّع الناس على أن يكونوا أصحاب رؤى خاصة بهم، يتمتعون بقدرة على مقارنة الآراء وتحليلها.
كلماته كانت درسًا في الثقافة والثقة بالنفس. لم يكن إدريس مبهرًا فقط بتلك الكلمات، بل بالعمق الذي حمله موقفه. كان بإمكانه أن يكتفي بلذة الهيمنة الفكرية ويتمتع بلحظة الفخر عندما يرى الناس ينتظرون آراءه، لكنه اختار أن يكون مُلهِمًا وناصحًا يبتغي مصلحة الناس قبل مصالحه الشخصية.
مثل هذا الفكر هو الذي يبني مجتمعًا واعيًا، قادرًا على مواجهة التحديات بوعي وفكر ناضج وحر، بعيدًا عن الجمود والتبعية العمياء.
التغيير الذي نحتاجه ليس مجرد شعارات، بل ممارسة حقيقية تتجلى في تقبل الآخر كما هو، لا كما نريده أن يكون. بدون ذلك، ستظل الشعارات مجرد كلمات جوفاء، تزين الخطابات لكنها لا تمس الواقع ولا تُحدث أي فرق حقيقي